«إنقلاب النيجر».. بداية للحرب الباردة الثانية في أفريقيا 

الأحداث فى النيجر
الأحداث فى النيجر

جاء انقلاب النيجر ليضع القارة الأفريقية من جديد على خريطة الحرب الباردة الثانية بين الدول الغربية وروسيا، خاصة بعد نجاح انقلابي بوركينا فاسو ومالي وبداية تقلص النفوذ الفرنسي في وسط وغرب أفريقيا في دولة بعد الأخرى، ليحل محلها النفوذ الروسي، الذي يتمدد في القارة على خليفة استمرار الحرب في أوكرانيا.

فلا تنفصل الأحداث الأخيرة في النيجر في السياق العام عن دول أفريقية عدة، حيث نلاحظ صراع محتدم علي الثروات والجغرافيا والنفوذ، فالنيجر بلد تنظر له باريس كأحدي الحصون المتبقية في دول الساحل غربي أفريقيا لا سيما بعد خروج فرنسا من مالي وأفريقيا الوسطي وبوركينا فاسو

وجاء انقلاب النيجر ليعيد للواجهة من جديد  الحديث عن الرفض المتزايد للنفوذ  الفرنسي في القارة السمراء، فالمعارضون للوجود الفرنسي بشدة يقولون انها تحكم قبضتها علي اقتصاد مستعمراتها السابقة وتحتاج البلاد التخلص من تلك السيطرة الاستعمارية بعد أكثر من ستون عاما على الاستقلال.

الحرب الباردة الثانية

كان تراجع الاهتمام الروسي بأفريقيا أبرز ملامح انتهاء الحرب الباردة الأولى، فمع انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، أغلقت موسكو مباشرة بعثاتها الدبلوماسية في 13 بلداً أفريقياً عام 1992، وبعد ثلاثة عقود بدأت روسيا الإتحادية في الكشف عن توجهاتها الرافضة للنظام العالمي أحادي القطب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية، فبدأت تشكل مع الصين قوة جديدة تنافس بشدة النفوذ الغربي في مناطق مختلفة في العالم ومن أهمها القارة الأفريقية الغنية بالموارد والإمكانات وذات القوة التصويتية الكبيرة في الجمعية العامة للأمم المتحدة.

ومنذ ذلك الوقت باتت الدول الافريقية  حكرا علي الدول الغربية وعلي رأسها فرنسا المستعمر القديم التي اصبحت تواجه تنافس وتحدي غير مسبوق في مناطق نفوذها التقليدي خصوصا في منطقة الساحل وبالأخص منطقة غرب أفريقيا. 

ومع مجئ الحرب الروسية الاوكرانية واصطفاف عدد من البلدان الأفريقية  إلى جانب موسكو بدأ يتكشف تنامي النفوذ الروسي في القارة السمراء، ومن المرجح أن موجة الانقلابات الحديثة التي  تشهدها أفريقيا وخاصة في وسط وغرب أفريقيا تعد مؤشرا علي الإطاحة بحلفاء الغرب في القارة. 

حيث تركز السياسة الخارجية الروسية  تجاه إفريقيا، بشكل رئيسي في عودتها إلى الفضاء الإفريقي على المدخل العسكري، بعد تنامي الطلب الإفريقي على خدمات التسليح والتدريب والأمن، وتراجع معدلات الحصول على هذه الخدمات من الغرب بسبب تزايد تكلفة الشروط السياسية والاقتصادية التي يفرضها الغرب مقابل الدعم العسكري والاقتصادي بينما يمكن الحصول عليها من روسيا أو الصين بدون تلك الشروط.

وكشفت تقارير غربية عدة أن ما يحدث الآن في القارة الافريقية يوصف بـ"الحرب الباردة الثانية"، ممثلة في صراع النفوذ والحروب بالوكالة بين روسيا والغرب في العديد من الساحات التي تشهد نشاطاً لافتاً للشركات الروسية، وعلى رأسها مجموعة "فاجنر" التي تدير منظومة واسعة من الأنشطة الاقتصادية والعسكرية والدعائية لصالح "الكرملين"، بينما تؤكد المواقف الداعمة لروسيا أنها ليس لديها ماض استعماري في القارة، بل ساندت حركات التحرر الوطني الأفريقية، وهي تقوم حالياً بهذا الدور في مواجهة الاستعمار الأوروبي الجديد.

ولعبت روسيا مؤخرا أدوارا مهمة  بعد أكبر موجة انقلابات متتالية عرفتها القارة في تاريخها الحديث، ففي أغسطس 2020 تزعم العقيد عاصمي غويتا من القوات الخاصة المالية، انقلاباً أطاح بحكومة الرئيس الراحل أبو بكر كيتا المدعومة من فرنسا، ثم قاد انقلاباً ثانياً متوجاً نفسه رئيساً انتقالياً للبلاد، حيث واجه حملة ضغط فرنسية قصوى بفضل التحول نحو الحليف الروسي، الذي قدم دعماً غير محدود للسلطات الجديدة من أجل ملء الفراغ الأمني، الذي خلفه الانسحاب الفرنسي من البلاد، حيث تم توقيع اتفاقية مع شركة "فاغنر" الروسية التي سيطرت بالفعل على معسكر باماكو بالتزامن مع انسحاب القوات الفرنسية في فبراير الماضي، فضلاً عن نشر مئات الجنود الروس في القاعدة العسكرية التي تركها الفرنسيون في تمبكتو من أجل تدريب قوات الجيش المالي. وقبل أيام عدة، أعلنت الحكومة المؤقتة في مالي المدعومة من موسكو عن إحباط محاولة انقلاب جديدة مدعومة من دولة غربية.

وخلال القمة الروسية الأفريقية الثانية التي في عقدت سان بطرسبرج الأسبوع الماضي بدا واضحا مدى التقارب مع القادة الأفارقة الساعين لزيادة التعاون مع موسكو وخاصة قائد انقلاب بروكينا فاسو إبراهيم ترواري الذي طالب موسكو بالمزيد من الدعم خاصة في المجال العسكري والأمني بالاضافة لمشروعات الطاقة وخاصة النووية وتطوير الانتاج الزراعي باستحدام التكنولوجيا الحديثة التي يمكن ان تقدمها موسكو لبلاده.

وفي السودان تمكنت من تعزيز علاقاتها عبر التوافق مع القوات المسلحة على تأسيس قاعدة عسكرية على البحر الأحمر، وخلال الحرب الدائرة الآن بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع تواترت عدة أنباء تشير إلى دعم قوات الدعم السريع من قبل مجموعة فاجنر الروسية، كما عززت موسكو حضورها في ليبيا من خلال دعم قوات الجيش الوطني في مواجهة حكومة طرابلس خلال السنوات الماضية. 

أما في تشاد فنجد المعارك الاخيرة في انجمينا التي أطاحت العام الماضي بالرئيس إدريس ديبي إتنو، أحد أبرز حلفاء فرنسا في القارة بعد ثلاثة عقود في السلطة، على أنها محض انقلاب مدعوم من روسيا، التي تربطها علاقات وثيقة بالحركات المسلحة التشادية، وعلى رأسها حركة "فاكت"، التي قتلت ديبي في معارك شمال البلاد، حيث تتخذ الحركة من مناطق النفوذ الروسي في ليبيا معقلاً لها.

وتوضح تقاريرغربية، أن القاسم المشترك بين قادة الانقلابات، التي حدثت في مالي وبوركينا فاسو وتشاد والسودان وغينيا بيساو وغينيا كوناكري وأخيرا انقلاب النيجر كان أن معظم هؤلاء القادة العسكريين الذين دبروا تلك الانقلابات قد حصلوا على تدريب عسكري في روسيا، وعلى سبيل المثال فإن الضابطين في الجيش المالي مالك دياو وساديو كامارا، وهما العقل المدبر للانقلاب عام 2020 قد أمضى كل منهما عاماً في مدرسة القيادة العسكرية العليا في موسكو.

ولكن التحول نحو روسيا ليس بالضرورة أن يكون مرتبطاً بانقلاب عسكري، ففي أفريقيا الوسطى تمكن الرئيس المنتخب حديثاً فوستين أرشانج تواديرا من تحويل بلاده إلى قاعدة للنفوذ الروسي بعد أن كانت حليفاً أساسياً لفرنسا، حيث أرسلت موسكو قوات تابعة لمجموعتي سيرا للخدمات الأمنية وفاجنر أصبحت مسئولة تماماً عن حماية المنشآت الحيوية في العاصمة بما في ذلك القصر الرئاسي، كما تم تعيين الروسي فاليري زاخاروف، ضابط الاستخبارات السابق، في منصب مستشار الأمن القومي للرئيس فوستين أرشانج.

وستكشف الأيام القليلة القادمة عن تطورات جديدة لمظاهر الحرب الباردة الثانية التي بدأت تظهر مؤشراتها في ظل السعي الروسي والصيني لتحدي الهيمنة الغربية على العالم، والعمل على تأسيس نظام عالمي جديد يحقق التوازن في المصالح والعدالة في العلاقات الدولية سواء السياسية أو الاقتصادية.

ترشيحاتنا